قبل خمسة أعوام تقريباً، أُجريت دراسة بتكليف من مجلة بوشر Bücher الألمانية حول أثر الشاعر والمسرحي برتولد بريشت في الجيل الألماني الجديد. 42 بالمئة ممن شملتهم الأسئلة، اعترفوا أنهم لم يسبق لهم قراءة أو مشاهدة أي عمل من أعماله. أظهرت الدراسة نفسها أن غالبية هؤلاء كذلك، لا يعرفون أن بريشت، هو مؤسس المسرح العالمي الشهير "برلينر أنسامبل"، كما لا يملكون أدنى فكرة حول نظريات بريشت ودوره في تطوير المسرح الحديث، ونقله من الأفق الدرامي إلى الملحمي.
إنها ليست مسألة الدولة الألمانية، بل مسألة دور النشر التي لم تعد تجد في نتاج بريشت مادة للتقاسم مع القارئ الألماني. كتب بريشت شعره ومسرحه ضمن مكون أساسي، هو الفكر الهيغلي والماركسي ( كتاب "رأس المال" تحديداً). حاول اعتماد إيديولوجياتهما عبر الشعر والمسرح، لكن بشكل يحفظ النص من الشعاراتية. وكان لهذا التواتر ما بين الإيديولوجيا المحدودة من جهة، واللغة التي لا يجب أن تحد، من جهة أخرى، أثراً إيجابياً على المستوى التقني، تجلى في تحريض الممثل على أخذ مواقف شخصية من الحوار، والتفاعل ذاتيا على خشبة المسرح وعدم التقيد بالنص بشكل تام، إضافة إلى إشراك الجمهور في اللعبة المسرحية، ونقله خارج خانة المتلقي، وكسر ما كان يسمى بالجدار الرابع. فتح هذا الأمر الجملة، أمام بريشت، ما دفعه إلى عدم الكف عن التجريب، والتشكيك الدائم في أفكاره، إذ لا شيء مطلق ونهائي، وفي مقابل أوروبا المتغيرة سياسياً واجتماعياً، كان هناك أرضية متذبذبة يقف عليها النص البرشتي. فحضوره كمتلق شخصي لأعماله، نافذ بقدر حضوره كمسرحي وشاعر. كان بريشت مدفوعاً بغاية "قومية- اشتراكية"، معادية لنظام أودلف هتلر النازي. لكنه لم يجعل من هذا الأمر مظهراً مباشراً لمشروعه، ولم يكن إحدى شروط طاقة جملته المسرحية أو الشعرية. هكذا تحاشى المواجهات مع إيديولوجيات مغايرة، وإن لم يكن يكف عن انتقاد أثرها سوسيولوجيا.
لكن ما الذي يجعل بريشت خافتاً في أوروبا وألمانيا بالتحديد، وناشطاً خارجها؟ وما هي المعايير التي نستطيع من خلالها تفسير هذا المشهد؟ هل هو سعي مجتمعات أوروبا إلى تجاوز أيقونات المرحلة التاريخية والسياسية السابقة وإيجاد المظلة اللغوية التي توافق هيكل المجتمع الأوروبي ونظم عيشه الحديث؟ وهل أن أعمال بريشت دفنت تحت أنقاض مرحلة سياسية سابقة، لم تعد قائمة حالياً في دول الشمال؟ ولماذا قد يؤثر مسرح بريشت كثيراً في دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية والبرازيل تحديداً، والدول العربية، فيما تكون أوروبا قد تجاوزته نحو أشكال مسرحية ولغات أكثر حيوية من قبل؟ هل تمسكنا بمسرح بريشت إلى الآن، هو قشة ننفخ فيها حالة مجتمع يعيش في القرن الواحد والعشرين، فيما يجد متنفسه في أسلوب مسرحي كتب في النصف الأول من القرن العشرين؟ هذا إذا افترضنا أساسا أن الحياة "المسرحية" ناشطة بما يكفي لإطلاق هذه الأسئلة وسواها.
القارئ لأعمال برتولت بريشت الشعرية (ترجمة أحمد حسان/ دار الجمل)، بالتوازي مع بعض ملامح حياته، يلمس خطوطاً لمشروع أدبي ومسرحي، كان بريشت قد وضعه نصب عينيه منذ أن كان شاباً. يقول لإحدى صديقاته في المرحلة الثانوية "سأكون بعد غوته مباشرة من حيث الأهمية". من هنا، يكون لبريشت رؤيا فنية، اعتمدت على قراءة الواقع السوسيولوجي الصعب لسكان ألمانيا بعد الحرب العالمية الاولى. كان على ما يبدو "بصّاراً" بمتطلبات المرحلة الأوروبية ما بعد تلك الحرب. انسحب ذلك على اللغة، والشكل. في أشعاره الأولى (القصائد والمزامير المبكرة 1913- 1920)، يبدو عالمه الشعري، لصيقاً بذاكرته الجغرافية والعائلية. يحاول الدخول إليها واكتشافها، مقابل غربته أو عدم اقتناعه بالعالم الخارجي، الأكثر قسوة والميتافيزيقي إلى حد ما، من دون أن يكون تراجيدياً بالضرورة أو بكائياً. فالهزيمة، هي النقطة التي ينطلق منها، والتي يصوب بوصلتها سوسيولوجيا، إلى الداخل الألماني، ليعيد إنتاج لغته بمخاطبة الذهن، وليس العاطفة، والمجتمع وليس الطبيعة، والواقعية وليس الرومانطيقية.
خرج بريشت مبكراً على تركة أسلافه الشعراء. لم يكن منافساً لهم، أكثر من كونه غريباً عنهم، أو غير مألوف، أو "شكلاني" أو ذهني. فلم تعنيه الشعرية الغنائية أو السوريالية أو الرمزية، كقالب جاهز للارتداء. عناه أكثر أن يتدخل الشعر في ترتيب الحياة، وتفاصيلها وتشريح إحداثيتها المختلفة (إن لم نقل الجديدة) دون أن يفترض منطقا حالماً، أو غير واقعي على الأقل، في العبارة نفسها. لم تشرد لغته عن منهجه الفكري المشكك بصحة الأشياء. كانت هذه قاعدة بلا ضوابط، ترى وتنفصل بسرعة عن المحيط، قبل أن يمتصها. يتحول السرد إلى قصيدة، تخاطب وتتألق، لكنها لا تعلن موقفا. يمكن أن يكون لها دلالات تتعلق بالمستجد السياسي بُعَيْد الحرب العالمية الثانية مثلاً، أو بحالة فردية تفضح (قصيدة مناجاة لصاحب مقام رفيع)، أو حتى لتشم دون أن تشتم (قصيدة "مراثي هوليوود" التي كتبها عن المنفى)، أو لتحكي ذلك الإفلاس الأخلاقي في التعاطي مع العلماء (جاليليو)، أو الفنانين (كارولا نيهر الممثلة الألمانية التي أعدم زوجها الروسي في موسكو وأرسلت هي إلى أحد المعسكرات حيث توفيت هناك).
لكن قراءة كهذه لا تتجاوز منطق القصيدة، ولا كينونتها الشعرية، بل تبحث فقط في الجوانب الإيديولوجية العامة والخفية، الدافعة لها، كما والوضع السياسي المحيط بالشاعر. وهي قراءة غير شاملة، لأنها تستبق القصيدة، نحو أسباب سوسيولوجية وتربوية متعلقة ببريشت، ولا تطرح شيئا حول جمالية شعره. لكن ما هي المسافة التي تفصل ما بين شعره وآرائه الشخصية؟ وأين يقف القارئ من هذا كله؟ نستطيع التشديد على "القارئ"، لأن بريشت كان يعتبره، ركنا من أركان القصيدة، يقف خارجها (ملاحظات بريشت حول كتاب الصلوات). القارئ الألماني، الذي جهد بريشت طويلاً لاستمالته، وتطهيره من الرجس النازي، والإنفلات الأخلاقي، تخطى بحياته الخاصة بريشت، لم يعد العالم بحاجة إلى واعظين او محرضين عبر الشعر أو المسرح، لأن أوروبا اليوم ببساطة مشغولة بتلميع مرآتها وليس صورتها، وعلى شاكلتها الإنسان الأوروبي.
لا يمكن الاتكال على معيار واحد لقراءة بريشت شاعراً، لسببين اولهما أن بريشت ظل ينشد التجريب والشكلانية، حتى كتاباته الأخيرة، وبالتالي فإن ملامح قصيدته لم تكن ثابتة، وثانيهما، أن عالم بريشت لم يكن نهائياً، وهو عالم متفسخ، تطفو جدلياته والتشكيك فيه على السطح، لاصقة الضباب في وجه أي قيمة شعرية منافسة. يكون في شعره، توظيفاً للذهن، واستمالة له، وتحريضه على التأمل، يلعب الشعر عنده دوراً إجتماعياً، محاولاً أن يفرض سلطة تتمسك بتنظيم الأخلاق، حتى تكاد تشبه سلطة كنيسة متزمتة. ليس هناك استثناءات، فحتى الطبيعة، يتم تجييرها، كمكان للفساد. فهي طبيعة أنانية، تستعير ملامح الفرد، لتمحوها وتعيد نحتها. وهي الطبيعة التي لا بد وأن تخضع لإيديولوجيا مغايرة، ليعاد النظر بقيمتها، واستخدامها كذلك، وإن دعت الحاجة إلى الراديكالية. عملية الهدم، تطال كل ما هو ثابت، ومتحرك كذلك، بغض النظر عن نسبة مسؤولية كل مكونات الوجود. إن هذه النظرة الشمولية والداكنة للحياة باعتبارها مستوعباً مليئاً بالتحولات غير النشيطة، يجعل من بريشت دائم الاستطلاع، فلا يستثنى أصدقاؤه، ولا زملاؤه في المسرح، ولا المدينة، ولا القرية، ولا الطفولة، ولا الحكمة، ولا الحلم، ولا الشتيمة، ولا النرجسية، ولا التنظير، من احتمالية الحضور في القصيدة. هكذا، فإن بريشت يبدو وكأنه يريد خلق دوائر بأحجام مختلفة، ومتشابكة، على سطح الماء، لكي يؤمن للعالم رؤية ما تحت هذا الماء بشكل أفضل.
قد يكون بريشت كتب شعراً مرحلياً، عاكساً لحقبة سياسية انتقالية. ويبدو أن خطأه الوحيد هو ضغطه للقصيدة بين إصبعي السياسة والسوسويولوجيا والظرف، داخل أنبوب ماركسي، وإن حاول تجاوزه حيناً، والتغاضي عن جدرانه حيناً آخر. الأكيد، أن بريشت لم ينتبه إلى أن التكنولوجيا التي يفتقر شعره الإشارة إليها (والذي انتبه إليه آخرون قبله كالسورياليين مثلا)، هي المحرك الذي سيؤثر في أساليب فنية لتتجاوز زمنها. ظل شعر بريشت ريفياً بمعنى استخدامه للعناصر والأدوات، ربما لأن الريف يحمل رمزية البدائي، الأضعف أمام الإجتياحات، والأول إنضماماً للثورات. ستقفز التبدلات فوق اعتبارات قصيدته في أوروبا، لكنها في أنحاء أخرى، ستسند شعوباً لا تزال تلتحف بأحلامها. بريشت المسرحي ينافس بقوة بريشت الشاعر، ويزيحه جانباً، لكن لا يزيح خصوصية شعره وتلك الجمالية الهائلة التي تنبثق عن تأليف الحكايات المجاورة للواقع، وترميزها، واعتمادها على الموسيقى التي درسها بريشت باكراً، وتركت أثرها في ضبط إيقاع جملته وتجذيبها، ولعبه على الأصوات. هو أول من وضع سطراً شعرياً "غير شعوري"، لاختراق السائد بالعقل، ولإعادة تشكيله، بلغة غير متحذلقة، وغير مركبة. أراد لشعره أن يكون مدرسياً، محفزاً لجيل مختلف، لا تنفصل قيمه الحياتية عن القيمة الأسمى التي يحملها الفن، والتي يرى فيها بريشت مخزناً لأدوات الديالكتيك.